حملة تجريم المقاومة الفلسطينية- تواطؤ أم مراهقة سياسية؟

مع اقتراب العدوان الغاشم على غزة من إكمال شهره العاشر، وبالتحديد في أعقاب المجزرة المروعة التي ارتُكبت في مواصي خان يونس، والتي خلّفت مئات الشهداء والجرحى من أبناء الشعب الفلسطيني، تصاعدت وتيرة حملة شعواء في الأوساط السياسية والإعلامية الفلسطينية، تستهدف تجريم المقاومة الباسلة، وتحميلها وزر هذه المجزرة النكراء، واستمرار مسلسل الإبادة الجماعية بحق أهلنا في غزة.
بين النقد البناء والتجريم المشين
في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" البطولية، التي نفذتها كتائب القسام المظفرة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عمت الفرحة والسعادة أوساط الشعب الفلسطيني قاطبة، نخبة وعامة، لما حققته هذه العملية من إنجازات عظيمة، واستشعارًا للمكاسب الإستراتيجية التي جنتها القضية الفلسطينية العادلة في الساعات الأولى من المعركة، مع التغني ببطولات المقاومين الأشاوس، وصمود الشعب الأبي في وجه مخططات التهجير القسري.
ولكن مع مرور الأشهر، وتحول العدوان على غزة إلى حرب إبادة جماعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بدأت تظهر بعض الأصوات الناقدة للمقاومة، معتبرة أن قرار العملية لم يأخذ في الحسبان بالشكل الكافي رد فعل الاحتلال الغاشم، والظروف الإقليمية والدولية المحيطة، مما أدى إلى استنتاجات خاطئة، و"منح الاحتلال ذريعة" لتنفيذ مخططاته الإجرامية من تهجير وتجويع وإبادة، ونسف أي أفق سياسي لحل القضية الفلسطينية.
إلا أن أصحاب هذا التحليل يغفلون حقيقة دامغة، وهي أن الاحتلال وحده يتحمل المسؤولية الكاملة عن الجرائم المروعة التي ارتكبها، والتي ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، بل وتتجاوز ذلك وفقًا لتقديرات البعض، وأن أي فعل مقاوم مهما بلغت أهميته، لا يمكن أن يبرر "رد فعل" الاحتلال الهمجي. كما أن الاحتلال يتعمد ارتكاب هذه الجرائم والمجازر، بهدف دفع البعض إلى تبني هذه الاستنتاجات المغلوطة، وبالتالي ممارسة الضغط على المقاومة، مما يستدعي المزيد من الحذر واليقظة والفطنة.
كما أن أصحاب هذا التحليل يتجاهلون حقيقة أخرى، وهي أن النقد، وإن كان مطلوبًا وضروريًا، يجب أن يتم في الوقت المناسب، بحيث يكون بناءً ومفيدًا. فمجرد افتراض وجود خطأ في الحدث الذي أشعل فتيل الحرب، وفقًا لهذا الرأي، لا يقدم لنا خارطة طريق واضحة للخروج من الأزمة الراهنة، وبالتالي يبقى مجرد تنظير عام وغير مجدٍ.
علاوة على ذلك، فإن الإلحاح المستمر على تذكير المقاومة بمعاناة الناس، وهي تدرك ذلك تمام الإدراك وتضعه نصب عينيها، لا يخدم أي هدف عملي، في ظل إصرار الاحتلال على إطالة أمد الحرب، بل والتصريح علانية بالنية في استئناف القتال بعد إطلاق سراح الأسرى، في إطار أي اتفاق لوقف إطلاق النار.
ومع كل ما سبق ذكره، يبقى النقد حقًا مكفولًا للجميع، بل وواجبًا على من استوفى شروطه وأتقن أدواته.
كما يجب أن يستند النقد إلى الاعتراف بحق المقاومة، وتجريم الاحتلال، والانطلاق من منطلقات وطنية خالصة، تتوخى مصلحة الشعب والقضية الفلسطينية. أما الحملة الشعواء الممنهجة التي استهدفت المقاومة/حماس في أعقاب مجزرة المواصي، فهي أمر مختلف تمامًا، وتدل على نوايا خبيثة.
لقد اكتظت وسائل التواصل الاجتماعي بتعليقات من بعض النشطاء، وعدد كبير من الحسابات الوهمية التي نشطت في حملة منظمة، تهدف إلى إدانة حركة حماس وجناحها العسكري، وتحميلهما المسؤولية عن عملية "طوفان الأقصى"، وعن معاناة الناس واستمرار الحرب، في توافق واضح مع الرواية "الإسرائيلية" المضللة.
هجوم مُدبَّر ومُنسَّق
في الثالث عشر من يوليو/ تموز الجاري، ارتكبت قوات الاحتلال جريمة بشعة، حيث قتلت ما يقرب من مئة فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال، وأصابت المئات بجروح خطيرة، وذلك في استهدافها لمنطقة مواصي خان يونس، التي كانت قد أعلنتها منطقة آمنة، بهدف تجميع النازحين في الخيام.
وادعت حكومة الاحتلال الكاذبة أن العملية استهدفت القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف، والقيادي فيها (قائد لواء خان يونس) رافع سلامة. وبعد ساعات قليلة، صرح نتنياهو بأن الأجهزة الأمنية والعسكرية غير قادرة على تحديد مصير كل من الضيف وسلامة بعد الاستهداف المزعوم، قبل أن تدعي لاحقًا مقتل سلامة، دون تقديم أي تفاصيل أو أدلة تثبت صحة ادعائها.
ومنذ بداية العدوان، اعتاد الفلسطينيون على ادعاءات الاحتلال الباطلة، بأن المقاومين يختبئون بين المدنيين، لتبرير قتلهم بدم بارد، وكذلك الادعاء بأن كل مجزرة تأتي نتيجة استهداف للمقاومين. بالإضافة إلى ذلك، ادعى الاحتلال مرارًا وتكرارًا مقتل قيادات في حماس وكتائب القسام، ولكن لم يتم إثبات صحة هذه الادعاءات مطلقًا، بل ثبت زيفها وعدم دقتها في وقت لاحق. ويتجلى ذلك بوضوح في استهداف المستشفيات، وفي مقدمتها مستشفى الشفاء، بزعم أنها مقرات للعمل المسلح، وكذلك قصف أماكن تجمع النازحين بشكل متكرر، مما يدحض هذه الادعاءات الكاذبة.
وعلى الرغم من أن السلطة الفلسطينية قد أدانت المجزرة في البداية، إلا أن بعض قياداتها وقيادات حركة فتح تبنوا الادعاء "الإسرائيلي"، وقدموا خطابًا متساوقًا معه إلى حد كبير. فقد ردد كل من القيادي في فتح والناطق باسمها منير الجاغوب، والسفير السابق وعضو المجلس الاستشاري لحركة فتح أسامة العلي، ومستشار الرئيس الفلسطيني محمود الهباش، والقيادي في فتح موفق مطر، خطابًا يحمل حماس مسؤولية المجزرة، ويتهم قياداتها بالتخفي بين المدنيين واتخاذهم "دروعًا بشرية" يستهدفها الاحتلال.
ومما يؤكد أن الأمر لم يكن مجرد اجتهادات شخصية، هو بيان الرئاسة الفلسطينية الذي اعتبر حماس "شريكًا في تحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية والسياسية عن استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة"، بحجة أنها "تقدم ذرائع مجانية لإسرائيل".
الأسباب والمرامي الخفية
بالإضافة إلى هذه المواقف الرسمية المخزية، امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بتعليقات من بعض النشطاء، وعدد كبير من الحسابات الوهمية التي نشطت في حملة منظمة، تستهدف إدانة حركة حماس وجناحها العسكري، وتحميلهما المسؤولية عن عملية "طوفان الأقصى"، وعن معاناة الناس واستمرار الحرب، في توافق تام مع الرواية "الإسرائيلية" المضللة. وتضمنت هذه الحملة التشهير بقيادات المقاومة، والدعوات لاستسلامهم أو القضاء عليهم، وهو ما دعا إليه الهباش صراحة وبكل وقاحة.
وفي هذا السياق، يبدو أن التوقيت يلعب دورًا حاسمًا في فهم السياق والأسباب. ففي أعقاب مجزرة المواصي، كان هناك احتمال لنجاح الاحتلال في اغتيال القائد محمد الضيف، وما قد يعنيه ذلك من إمكانية وقف الحرب. ومن جهة أخرى، كان عدد الشهداء والجرحى كبيرًا جدًا، مما أثار مشاعر الغضب والإحباط لدى الكثيرين.
لذلك، كان من الواضح أن السلطة سعت إلى استغلال هذا الحدث المأساوي، لتعزيز فرصها في "استلام غزة في اليوم التالي"، إذا كان اتفاق وقف إطلاق النار وشيكًا. وفي المقابل، كانت تحاول توجيه الغضب الشعبي، خاصة في الساعات الأولى، نحو حماس بدلًا من الاحتلال، في حال لم تتوقف الحرب، أو لم يثبت مقتل الضيف.
وفي سياق آخر، يبدو أن العدد الهائل من الحسابات الوهمية يتبع للاحتلال أو للسلطة، حيث ركز على نشر أخبار وصور وفيديوهات بمضامين وأساليب متكررة، بعضها زائف ومفبرك، للتأكيد على أن حماس تتمترس بين المدنيين، وتحميلها مسؤولية قتلهم والدمار الذي لحق بغزة، واتهامها بالبحث عن مصالحها الذاتية، وعدم رغبتها في وقف إطلاق النار، وغير ذلك من الادعاءات الباطلة.
إن هذا التصرف لم يكن مجرد مناكفة سياسية، بل كان خطيئة وطنية لا تغتفر. لذلك، لم يقتصر التنديد بهذه التصريحات على حماس والفصائل الأخرى، بل صدر أيضًا من بعض الأصوات الحرة داخل حركة فتح نفسها. كما بدا هذا التصرف محاولة فاشلة للتغطية على صمت السلطة المريب، ووقوفها موقف المتفرج على الإبادة الجماعية في غزة، والمشاركة الفعالة في قمع المقاومة في الضفة الغربية. فكأنها بهذا الخطاب المشين تحاول صرف الأنظار والأسئلة عن دورها ووظيفتها، عبر حيل الدفاع النفسي الرخيصة.
إن هذا الخطاب يتبنى سردية الاحتلال الكاذبة دون أي تدقيق أو تمحيص، ويبرر ضمنًا استهداف المدنيين الأبرياء، ويحمل المسؤولية لطرف فلسطيني. وبذلك، لا يتعارض فقط مع منطق المقاومة وحق الشعب الفلسطيني فيها، بل يتنافى أيضًا مع تاريخ حركة فتح المجيد، الذي استحضره الكثيرون، سواء في منطق السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أو في الاتهامات الباطلة بالتستر بالمدنيين.
ومن جهة أخرى، تكشف هذه التصريحات والبيانات عن رهان يائس على الاحتلال وداعميه، لمنح السلطة دورًا ما في غزة "في اليوم التالي". وهذا الرهان، بالإضافة إلى كونه مغامرة غير منطقية وبلا طائل، يعد خيارًا مشينًا وطنيًا، يضع السلطة في موقف من يسعى إلى دخول غزة على ظهر دبابة "إسرائيلية".
كما أن هذه التبرئة الضمنية للاحتلال لا تساعد على تقريب موعد وقف إطلاق النار، بل تشجع الاحتلال على الاستمرار في ارتكاب المزيد من المجازر، اعتمادًا على هذا الغطاء السياسي الضمني وغيره.
وبهذا المعنى، تبدو بعض القيادات الفلسطينية وكأنها تضع نفسها في نفس الخندق مع الاحتلال، في مواجهة فصائل المقاومة والشعب الفلسطيني، وهذا بؤس وعار كبيران. بالإضافة إلى ذلك، يعكس هذا الموقف عمى سياسيًا، وعدم إدراك للمصير المأساوي الذي ينتظر الفلسطينيين جميعًا، وخصوصًا في الضفة الغربية، في حال تم كسر المقاومة في غزة.
وفي الخلاصة، فإن هذه الحملة المنظمة والممنهجة لتجريم المقاومة وتبرئة الاحتلال، لن تغير شيئًا على أرض الواقع، ولن تؤثر في موازين القوى، ولن تسهم في وقف الحرب أو حقن الدماء، بل ستضع بعض قيادات السلطة وحركة فتح في خانة المتآمرين على المقاومة والشعب والقضية الفلسطينية العادلة.
وهذا يضع مسؤولية جسيمة على عاتق الكل الوطني، وفي مقدمتهم قيادات وكوادر حركة فتح الشرفاء، الذين يجب أن يرفعوا أصواتهم عالياً، لرفض هذه المراهقات السياسية، ورفض أن يكون هذا النهج المتواطئ باسمهم كفتح أو كشعب.